نقاط على الحروف
هل تصلح مقولة "سويسرا الشرق" للبنان؟
درجت لمدة طويلة من الزمن، بين اللبنانيين وفي موروثات الدبلوماسية والأدبيات السياسية، مقولة "لبنان سويسرا الشرق"، وترافقت مع صورة مقولبة تفيد القصد بالتشبيه، وهي أن لبنان الذي كان، وما يزال واحة السياحة ورائد التعدّدية العرقية والثقافية والدينية، يشبه سويسرا في هذا المجال إلى حد كبير. وهذا هو الفهم العام للمقولة، ولكن المستبطن في القضية هو تأكيد موقع لبنان في منظومة دول عدم الانحياز؛ كونه بلدًا مسالمًا، ويجب ألا يكون مصنّفًا ضمن دائرة بلدان المواجهة، فضلًا عن إمكان تطبيق نظام الفيدرالية فيه؛ حيث يتشكّل من مجموعة أقاليم أو كانتونات على غرار النموذج السويسري.
لقد دأب الكثير من العهود الرئاسية على الالتزام بهذه السياسة، والنأي بالنفس عن الحروب التي أشعلتها "إسرائيل" في إطار مشروع الهيمنة على ما يسمّى منطقة "الشرق الأوسط"، والسعي إلى تحييد لبنان عن أي التزام بالقضايا العربية الكبرى؛ مثل الصراع العربي – الصهيوني والحروب العربية – "الإسرائيلية"، إلا في حدود التضامن في الموقف السياسي في إطار القرار العربي الجامع. في هذا السياق؛ صدرت مواقف صريحة، خصوصًا من التيارات اليمينية اللبنانية، تطالب بإرساء خصوصية استثنائية للبنان كونه "صلة الوصل بين الشرق والغرب"، وعدم إقحامه في صراعات قد تتسبّب بانقسامات سياسية بين الأحزاب والجهات المختلفة ارتباطًا بتبعيتها للشرق العروبي والقومي والاشتراكي أو للغرب الليبرالي والرأسمالي والديمقراطي، وهذا ما يحتّم أن يكون لبنان دولة حيادية غير معسكرة، وتنتهج الخيارات السلمية والقرارات الدولية التي تصدرها الأمم المتحدة.
لكن إذا ما نظرنا إلى سويسرا اليوم – يقطنها قرابة 9 ملايين نسمة - نجدها دولة شهدت حربًا أهلية طاحنة بين مكوّناتها؛ أعقبتها حركة إصلاحية قادت إلى إقرار دستور جديد في العام 1848، نصّ على إقامة نظام ديمقراطي فدرالي علماني. وهي مؤلفة من 26 إقليمًا، وتقطنها جماعات مختلفة ومتناقضة فيما بينها، في الدين والهوية والثقافات، وليس فيها لغة رسمية فهناك 4 لغات سائدة، ويوجد فيها أحزاب موالية للدولة وأخرى معارضة، ولكن تجمعها أواصر التعاون والمصلحة المشتركة للبلد واحترام الأقلّيات وسيادة الديمقراطية المباشرة، ما يمنح السيادة أو السلطة العليا للشعب. وكل ذلك جعل من سويسرا واحدة من أغنى بلدان العالم، ومنحها أفضلية استضافة كبريات المقرات الدولية السياسية والمالية والمنظمات الإنسانية والرياضية، وقد حافظت سويسرا على سياسة الحياد، منذ العام 1515، ولا سيّما خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية.
لكنّ لسويسرا وجهًا آخر؛ لا بد من التعرّف إليه قبل أن نسقطها نموذجًا عمليًا على لبنان، وهو:
1. تعتقد سويسرا بالحياد المسلّح الذي يتيح لها دستوريًا الانضمام إلى تحالفات عسكرية، في حال تعرضها لخطر الحرب، ولذلك تسعى لإبقاء قدراتها العسكرية في جهوزية دائمة، وسنويًا تدرّب ما يقرب من 20 ألف شخص، في مراكز تجنيد لمدة تصل إلى 5 أشهر.
2. تمتلك جيشاَ مؤلفًا من نحو 150 ألف جندي من القوات البرية والجوية، وليس لديها قوات بحرية؛ لأنها لا تطل على البحر، وقادرة على تجنيد 3,6 مليون شخص من عمر 16 إلى 49 في حال الحرب، وهناك أكثر من مليوني قطعة سلاح يملكها عامّة الناس.
3. أجري، في العام 1989، استفتاء لإلغاء القوات المسلحة؛ فصوّت نحو ثلثي الناخبين ضد هذا الاقتراح. وفي استفتاء آخر، عقب هجمات 11 ايلول/ سبتمبر 2001، صوّت أكثر من 78٪ من الناخبين ضده وهذا يعكس وعي الشعب لأهمية الحفاظ على القدرات العسكرية لحماية البلد من الأخطار الخارجية.
4. طالبت بعد اندلاع الحرب الروسية – الأوكرانية بزيادة حجم مشاركاتها في المناورات العسكرية التي يُجريها حلف شمالي ألأطلسي (الناتو)، خصوصًا أن الجيش السويسري القائم على نظام الميليشيات مؤهّل بشكل جيد للمشاركة في هذه المناورات.
5. تمتلك أكثر من 200 طائرة حربية من المخزون النشط، ويشمل المقاتلات النفاثة والمروحيات الهجومية والمسيّرات وطائرات التدريب، ومن المقرّر أن تستلم قريبًا 36 طائرة من طراز F-35A من الولايات المتحدة الأمريكية.
6. وقعت رسميًا، في 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2024، مذكرة تفاهم مع الاتحاد الأوروربي لتصبح العضو الخامس عشر في مبادرة الدرع الجوي الأوروبية.
7. في العام 2017، صوّتت لصالح معاهدة حظر الأسلحة النووية، ولكنها عدّلت قرارها في العام 2018 وعارضت التوقيع على المعاهدة بسبب المخاوف الأمنية، ثم جدّدت معارضتها في العام 2024.
8. منذ العام 2020 حتى اليوم أتمّت سلسلة عمليات شراء بطاريات صواريخ من طراز PAC-3 وباتريوت الأمريكية، بقيمة 7 مليارات دولار تقريبًا؛ "للحفاظ على نظام دفاعي فعال وموثوق به، وتحافظ به البلاد عن استقلالها عن البلدان الأخرى.
ما سبق من معطيات يقدّم صورة موجزة عن سويسرا التي يجب أن يطالب اللبنانيون التمثّل بها. وهي، على الرغم من صيت الحياد الملتصق بها، تعمل جاهدة لتحافظ على قدراتها العسكرية الذاتية، وتطوّر ترسانتها الحربية للدفاع عن شعبها وأرضها في مواجهة التهديدات الخارجية وصيانة استقلالها. وهي عمليًا غير حيادية؛ بل منخرطة في الجهود الأوروبية العسكرية المباشرة بما يفرضه انتمائها الجيوسياسي، مع العلم أنها ليست عضواَ في الاتحاد الأوروبي. وكل ذلك لم يحلْ دون أن تكون نموذجًا للدولة التي تلتقي فيه حكومتها مع تطلعات شعبها حيال القضايا المصيرية التي تتهدّد أمن البلد..
إذا أردنا فعلًا التشبّه بسويسرا فيجب أن نحذو حذوها في تطبيق نموذجها الكامل والشامل بأبعاده المختلفة، وهو ما يوجب كسر "الفيتو" الأمريكي الذي يحظر تمكين لبنان من تكوين قدراته وتسليح جيشه. ألا يحق للبنان أن يكون له جيش كبير، ويمتلك طائرات وصواريخ رادعة كما لسويسرا !؟ ألا يحق للشعب اللبناني أن يقرّر مصيره بنفسه من دون إملاءات من سفير أو مبعوث !؟
في المقابل؛ هناك في لبنان من يطالب بتعرية البلد من عوامل قوته وإبقائه مرتهنًا للإرادة الخارجية في مقدّراته العسكرية والسياسية والاقتصادية، وغيرها من مقوّمات البناء الوطني. من هنا؛ تأتي جعجعة المطالبات بنزع سلاح المقاومة ما يحوّل لبنان إلى كيان هشّ غير قابل للثبات والاستقرار، ويجعله مكشوفًا أمام أي خطر وهو يفتقد أدنى العناصر التي تتيح له أن يدافع عن وجوده وحدوده، أو أن يؤمن الحماية لشعبه ومؤسساته الخاصة والعامة. ولا غرابة في كون هذه المطالبات رجع الصدى لمواقف أمريكية و"إسرائيلية" تستهدف إبقاء لبنان تحت الضغط المباشر، وخاضعًا للإملاءات الوقحة والبشعة. أما المطالبة بتطبيق النظام الفدرالي على غرار النموذج السويسري؛ فهو يستبطن اتجاهًا خبيثًا يقود إلى تقطيع أوصال البلد وتقسيمه إلى "كانتونات" متناحرة، بدل أن تكون متعاونة ومتجانسة كما يقتضيه الانتماء الوطني، ويسهّل استفراده في أي مشروع يستهدف إلغاءه التدريجي عن الخارطة، سواء ارتدى هذا المشروع لباس السلام أم التطبيع أم تستّر بادّعاء الحرص على الأمن الداخلي وبسط السلطة الكاملة للدولة.
إن الحرب الأمريكية – "الإسرائيلية" على لبنان ما تزال مستمرة، وهناك الكثير من التحديّات والاستحقاقات الرئيسة التي يجب مواجهتها، وفي طليعتها تحرير الأرض وإطلاق الأسرى وإعمار ما هدّمه العدوان، فضلًا عن تكريم الشهداء والجرحى الذين ضحّوا بأرواحهم والناس الذين ضحّوا بمنازلهم وأملاكهم لحماية البلد ومنع العدو من تكرار اجتياح العام 1982. كما لا بد من إسكات أصوات النشاز التي تعمل على إذكاء الفتنة والتفرقة بين اللبنانيين، والتوحّد خلف خيار الوطن الجامع لكل أبنائه، أما من يهلّل للعصر "الإسرائيلي" فلن يجني من رهاناته سوى الخيبة.
إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف
28/04/2025
هل تصلح مقولة "سويسرا الشرق" للبنان؟
26/04/2025
السفارة الإيرانية تُحبط مخطّط رجي
24/04/2025
الاستسلام للمهزوم
التغطية الإخبارية
لبنان| إندلاع حريق في أحراج عكار العتيقة
إعلام العدو: موجة الحرائق مستمرة حتى الآن وشبهات بأنها مفتعلة
لبنان| الشيخ العيلاني يواصل جولته على المرجعيات لبحث شؤون صيدا والاستحقاق البلدي
عدنان منصور لـ"الأقصى": ما يجري في غزّة إبادة جماعية وصمت عربي غير مقبول
حماس تدعو إلى حراك عالمي لنصرة غزّة في يوم العمّال العالمي
مقالات مرتبطة

إعلان لوائح "التنمية والوفاء" لعضوية مجالس بلديات حارة حريك وبرج البراجنة والغبيري

جنبلاط: بداية مرحلة جديدة ومستعد للذهاب إلى دمشق مجددًا.. من أهان النبي والإسلام يجب أن يحاسب

الرئيس بري لرئيس لجنة وقف إطلاق النار: عليكم إلزام "إسرائيل" بالاتفاق

اللواء شحيتلي لـ العهد": اللجنة الخماسية "غير عادلة" وتساعد "إسرائيل" على إكمال "مهمتها" في لبنان

الوزير رسامني لـ"العهد": سنعمل على تحويل الوعود إلى واقع ملموس

النائب أمين شري لـ "العهد": ندعم اللوائح التي تؤمّن المناصفة في بيروت

الرئيس بري: أميل إلى اللوائح المقفلة.. انعكاس أي اتفاق أميركي - إيراني على المنطقة سيشمل لبنان

خمسون عامًا على الحرب الأهلية.. أي دور للعدو "الإسرائيلي" في تسعيرها؟

بالصور والفيديو| لقاء شعبي تضامني بمناسبة يوم القدس وسط بيروت
